فصل: تفسير الآيات (60- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (60- 62):

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} ممن ذكرت قبائحُهم {مَثَلُ السوء} صفةُ السَّوْء الذي هو كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامَه عند موتهم، وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار، وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة {وَللَّهِ} سبحانه وتعالى {المثل الاعلى} أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مثلٌ في العلو مطلقاً، وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبيراً {وَهُوَ العزيز} المنفردُ بكمال القدرة لاسيما على مؤاخذتهم بذنوبهم {الحكيم} الذي يفعل كلَّ ما يفعل بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جملة صفاتِه العجيبة تعالى.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الكفارَ {بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عُدّد من قبائحهم، وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءَه {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى: {مِن دَابَّةٍ} أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال: بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجُعَلُ يهلِك في جُحره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة وقيل: لو أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ، فيلزم أن لا يكون في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} {ولكن} لا يؤاخذهم بذلك بل {يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويكثُرَ عذابُهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} المسمّى {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له {سَاعَةِ} فذّةً، وهي مثَلٌ في قلة المدة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون، وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدامُ عند مجيء الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} فإن من مات كافراً مع أنه لا توبةَ له رأساً قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان بأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ} أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم مما ذكر، وهو تكريرٌ لما سبق، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} العاقبةَ الحسنى عند الله تعالى كقوله: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} وقرئ: {الكُذُبُ} وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة {لاَ جَرَمَ} رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقاً {أَنَّ لَهُمْ} مكان ما أمّلوا من الحسنى {النار} التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء، وقيل: مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلّفتُه ونسِيتُه، وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء، وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات، وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه.

.تفسير الآيات (63- 65):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يناله من جهالات الكفرةِ ووعيدٌ لهم على ذلك، أي أرسلنا إليهم رسلاً فدعَوْهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} القبيحةَ فعكفوا عليها مُصِرّين {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} أي قرينُهم وبئس القرينُ {اليوم} أي يوم زين لهم الشيطانُ أعمالهم فيه على طريق حكايةِ الحال الآتية وهي حالُ كونهم معذبين في النار، والوليُّ بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصرَ لهم غيرُه مبالغةً في نفي الناصرِ عنهم، ويجوز أن يكون الضميرُ عائداً إلى مشركي قريش والمعنى زيّن للأمم السالفة أعمالَهم فهو وليُّ هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذف المضافِ أي وليُّ أمثالهم {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو عذابُ النار.
{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآن {إِلاَّ لِتُبَيّنَ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلّةٍ من العلل إلا لتبين {لَهُمْ} أي للناس {الذى اختلفوا فِيهِ} من التوحيد والقدَر وأحكامِ الأفعال وأحوال المعاد {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} معطوفان على محل لتبين أي وللهداية والرحمة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وإنما انتصبا لكونهما أثرَيْ فاعلِ الفعل المعلَّل بخلاف التبيين حيث لم ينتصِبْ لفقدان شرطِه، ولعل تقديمَه عليهما لتقدُّمه في الوجود، وتخصيصُ كونهما هدًى ورحمةً بالمؤمنين لأنهم المغتنِمون آثارَه.
{والله أَنزَلَ مِنَ السماء} من السحاب أو من جانب السماء حسبما مرّ، وهذا تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوطئةً لما يعقُبه من أدلة التوحيد {مَاء} نوعاً خاصاً من الماء هو المطرُ، وتقديمُ المجرور على المنصوب لما مر مراراً من التشويق إلى المؤخر {فَأَحْيَا بِهِ الأرض} بما أنبت به فيها من أنواع النباتات {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي بعد يُبْسها، وما يفيده الفاءُ من التعقيب العاديّ لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في إنزال الماء من السماء وإحياءِ الأرض الميتةِ به {لآيَةً} وأيةَ آيةٍ دالةٍ على وحدته سبحانه وعلمه وقدرتِه وحكمتِه {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} هذا التذكيرَ ونظائرَه سماعَ تفكرٍ وتدبُّر فكأن مَنْ ليس كذلك أصمُّ.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} عظيمةً وأيَّ عبرةٍ تَحار في دركها العقولُ ويهيم في فهمها ألبابُ الفحول {نُّسْقِيكُمْ} استئنافٌ لبيان ما أُبهم أولاً من العبرة {مّمَّا فِي بُطُونِهِ} أي بطون الأنعامِ، والتذكيرُ هنا لمراعاة جانبِ اللفظِ فإنه اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى، ومَن جعله جمعَ نَعَمٍ جعل الضميرَ للبعض فإن اللبَن ليس لجميعها، أو له على المعنى، فإن المرادَ به الجنسُ وقرئ بفتح النون هاهنا وفي سورة المؤمنين {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} الفرْثُ فُضالةُ ما يبقى من العلف في الكَرِش المنهضمةِ بعضَ الانهضام وكثيفُ ما يبقى في الأمعاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمةَ إذا اعتلفت وانطبخ العلفُ في كرشها كان أسفلُه فرثاً، وأوسطُه لبناً، وأعلاه دماً. ولعل المرادَ به أن أوسطَه يكون مادةَ اللبن وأعلاه مادةَ الدم الذي يغذو البدنَ لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه، بل الكبِدُ تجذب صفاوة الطعام المنهضمِ في الكرش ويبقى ثفلُه وهو الفرثُ ثم يُمسكها ريثما يهضمها فيُحدثُ أخلاطاً أربعة معها مائيةً فتُميَّز تلك المائيةُ ما زاد على قدر الحاجة من المِرَّتين الصفراءِ والسوداء وتدفعها إلى الكِلْية والمرارة والطّحال، ثم توزِّع الباقي على الأعضاء بحسبها فتُجري على كلَ حقَّه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم، ثم إن كان الحيوانُ أنثى زاد أخلاطَها على قدر غذائها لاستيلاء البردِ والرطوبةِ على مزاجها فيندفع الزائدُ أو لا لأجل الجنينِ إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائدُ أو بعضُه إلى الضروع فيبيّض لمجاورته لحومَها الغذوية البِيضِ ويلَذّ طعمُه فيصيرُ لبناً، ومن تدبر في بدائع صنعِ الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبانِ وإعداد مقارّها ومجاريها والأسبابِ الموَلّدة لها وتسخيرِ القُوى المتصرفة فيها كلَّ وقت على ما يليق به اضطُرّ إلى الاعتراف بكمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وتناهي رأفته ورحمتِه. فمِن الأولى تبعيضيةٌ لما أن اللبن بعضُ ما في بطونه لأنه مخلوقٌ من بعض أجزاءِ الدم المتولّدِ من الأجزاء اللطيفةِ التي في الفرث حسبما فصل، والثانيةُ ابتدائية كقولك: سقَيت من الحوض لأن بين الفرث والدمِ مبدأَ الإسقاء، وهي متعلقةٌ بنُسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مراراً من أن تقديم ما حقُّه التأخيرُ يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر موجباً لفضل تمكّنِه عند ورودِه عليها لاسيما إذا كان المقدمُ متضمناً لوصف منافٍ لوصف المؤخَّر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفَيْ المقدّمِ والمؤخر تنافياً وتنائياً بحيث لا يتراءى ناراهما، فإن ذلك مما يزيد الشوقَ والاستشرافَ إلى المؤخر كما في قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً} أو حالٌ من (لبناً) قُدّم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضعُ العبرة {خَالِصًا} عن شائبة ما في الدم والفرثِ من الأوصاف ببرزخٍ من القدرة القاهرة الحاجزةِ عن بغي أحدِهما عليه مع كونهما مكتنفين له {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهلَ المرور في حلقهم، قيل: لم يغَصَّ أحدٌ باللبن، وقرئ: {سيِّغاً} بالتشديد وبالتخفيف مثل هيْن وهيِّن.

.تفسير الآيات (67- 69):

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
{وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} متعلقٌ بما يدل عليه الإسقاء من مطلق الإطعامِ المنتظمِ لإعطاء المطعومِ والمشروبِ فإن اللبن مطعومٌ كما أنه مشروبٌ أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما، وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} استئنافٌ لبيان كُنه الإطعامِ وكشفِه. أو بقوله: تتخذون منه، وتكريرُ الظرفِ للتأكيد، أو خبر لمبتدأ محذوفٍ صفتُه تتخذون أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه، وحَذْفُ الموصوف إذا كان في الكلام كلمةُ مِنْ سائغٌ نحو قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وتذكيرُ الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوفِ أعني العصير أو لأن المراد هو الجنسُ والسَّكَر مصدرٌ سُمّي به الخمرُ، وقيل: هو النبيذُ، وقيل: هو الطعم {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والدبس والزبيب والخلّ، والآية إن كانت سابقةَ النزول على تحريم الخمر فدالّةٌ على كراهتها وإلا فجامعةٌ بين العتاب والمِنّة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً} باهرةً {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولَهم في الآيات بالنظر والتأمل.
{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلّمها بوجوه لا يعلمها إلا العليمُ الخبير وقرى بفتحتين {أَنِ اتخذى} أي بأن اتخذي على أنّ أنْ مصدريةٌ ويجوز أن تكون مفسرةً لما في الإيحاء من معنى القول، وتأنيثُ الضمير مع أن النحلَ مذكر للحمل على معنى الجمع أو لأنه جمعُ نحلة، والتأنيثُ لغة أهل الحجاز {مِنَ الجبال بُيُوتًا} أي أوكاراً مع ما فيها من الخلايا، وقرئ: {بيوتاً} بكسر الباء {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أي يعرِشه الناسُ أي يرفعه من كرْم أو سقف، وقيل: المرادُ به ما يرفعه الناسُ ويبنونه للنحل، والمعنى اتخذي لنفسك بيوتاً من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرِشونه لك، وإيرادُ حرفِ التبعيض لما أنها لا تبنى في كل جبل وفي كل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها.
{ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} من كل ثمرة تشتهينها حُلوِها ومُرِّها {فاسلكى} ما أكلتِ منها {سُبُلَ رَبّكِ} أي مسالكَه التي برَأها بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة النَّوَر المرَّ عسلاً من أجوافك أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ أو فاسلكي راجعةً إلى بيوتك سبلَ ربك لا تتوعّر عليك ولا تلتبس {ذُلُلاً} جمع ذَلول وهو حال من السبل أي مذللة غيرَ متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك، أو من الضمير في اسلكي أي اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى التي هي موضعُ العبرة بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ {شَرَابٌ} أي عسل لأنه مشروب، واحتج به وبقوله تعالى: {كُلِى} من زعم أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة فتستحيل في بطنها عسلاً ثم تقيءُ ادّخاراً للشتاء، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق وتضعها في بيوتها، فإذا اجتمع فيها شيءٌ كثيرٌ يكون عسلاً فسّر البطونَ بالأفواه {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيضُ وأسودُ وأصفرُ وأحمرُ حسب اختلاف سنِّ النحل أو الفصلِ أو الذي أخذت منه العسل {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ، مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية، ويجوز كونه للتفخيم، وعن قتادةَ «أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال عليه الصلاة والسلام: اسقِه العسلَ فذهب ثم رجع فقال: قد سقَيتُه فما نفع، فقال: اذهبْ فاسقِه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك فسقاه فبرِىء كأنما أُنْشِط من عِقال»، وقيل: الضميرُ للقرآن أو لِما بين الله تعالى من أحوال النحل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: العسلُ شفاءٌ لكل داء، والقرآنُ شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءَين العسلِ والقرآنِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من أعاجيب آثار قدرةِ الله تعالى {لآيَةً} عظيمة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ المشتملةِ على حسن الصنعةِ وصِحة القسمة التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين إلا بآلات دقيقةٍ وأدواتٍ أنيقة وأنظار دقيقة، جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
{والله خَلَقَكُمْ} لما ذكر سبحانه من عجائب أحوالِ ما ذَكَر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائبِ أحوالِ البشر من أول عمُره إلى آخره وتطوراتِه فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتبَ العمُر في أربع: الأولى سنُّ النشوء والنماء، والثانية سنُّ الوقوف وهي سن الشباب، والثالثة سنُّ الانحطاط القليل وهي سنُّ الكهولة، والرابعة سنُّ الانحطاط الكبير وهي سنُّ الشيخوخة {ثُمَّ يتوفاكم} حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على حِكَم بالغةٍ بآجال مختلفة أطفالاً وشباباً وشيوخاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ} قبل توفّيه أي يعاد {إلى أَرْذَلِ العمر} أي أخسِّه وأحقرِه وهو خمسٌ وسبعون سنة على ما روي عن علي رضي الله عنه، وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضي الله عنه، وقيل: خمسٌ وتسعون، وإيثارُ الردِّ على الوصول والبلوغِ ونحوهما للإيذان بأن بلوغَه والوصولَ إليه رجوعٌ في الحقيقة إلى الضُّعف بعد القوة كقوله تعالى: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الخلق} ولا عمُرَ أسوأُ حالاً من عمر الهرِمِ الذي يشبه الطفلَ في نقصان العقل والقوة {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} كثير {شَيْئاً} من العلم أو من المعلومات أو لكيلا يعلم شيئاً بعد علمٍ بذلك الشيء، وقيل: لئلا يعقِلَ بعد عقله الأولِ شيئاً {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بمقادير أعماركم {قَدِيرٌ} على كل شيء يميت الشابَّ النشيطَ ويُبقي الهرِمَ الفانيَ، وفيه تنبيهٌ على أن تفاوتَ الآجالِ ليس إلا بتقدير قادرٍ حكيم ركب أبنيتَهم وعدّل أمزجتَهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوتُ هذا المبلغ.